القائمة الرئيسية

الصفحات

وجه في الزحام

عشرون عاما.... كم تائق لحضن زوجتي التي تبيت بحضن آخر، كم أحن لابتسامة ابني الميّت... لكن من أين لي بدقيقة خارج أسواري؟ القاعدة أنه إذا عكّر أحد عُزلتي المقدسة، فأنا هالك للأبد.. وكم أحتاج فعلاً للفناء! طوال عمري أكره الزحام، الآن فقط أعرف كم كان نعمة. في الزحام يتحول الناس إلى وجوه من بعيد.. وجوه عابسة، متذمرة، سائمة، أو حتى شاخصة.... وجه واحد يحمل هذا التعبير الرهيب: أنت لي. في طفولتي كنت في مدرسة متواضعة، لم يكن هناك أي تنظيم.. بمجرد أن يدق جرس الانصراف، تتجمع حشود التلاميذ على السلالم، يد في بطنك ويد في ظهرك، أنفاس كريهة على عنقك، ورائحة كريهة في أنفك.. أطفال أشدّاء يدفعونك لأسفل.. كنت أشعر بالاختناق، أكره هذا التلاصق الذي يكتم أنفاسي... وأتوق إلى اللحظة التي سأتحرر فيها. ’ناجي‘ صديقي كانت له طريقة مختلفة، كان بقول لي: ضع نفسك في حالة سلام، صفِّ فكرك، دع الجموع تحركك دون بذل طاقة، يدفعونك خطوة فخطوة للأمام حتى يوصلونك إلى البر بسلام.. ثم يغمض عينيه، يبسط يديه، ويبتسم.. أنظر من نافذتي: ذلك التراص الذي تطالعك به الحشود.. صفوف وصفوف لا ترى منها إلاّ الصف الأول فقط، والباقي وجوه، لا تنقص اللوحة إلا توقيع فنان ما... وأنت إن قُدّر لك أن تكون بينهم فيسيسقطونك تحت أقدامهم ويدهسونك.. كما أسقطوا ’ناجي‘ صديقي... يوم الزلزال، أصيب التلاميذ بهيستيريا، وأنا أُصبت بلوثة ما، الكل يتدافع على السلم، ويكادون ينسونني، أدفع نفسي بينهم، أصرخ: أنزلوني، أخرجوني من هنا، سيتهدّم فوقي، لكن لا أحد يأبه. وحده ’ناجي‘ صديقي يمد إليّ يده، فأتشبث بها. وفي النهاية حين سكنت الأرض، بحثت عن ’ناجي‘ صديقي فكان مُلقًا جثّة هامدة. أبعد هذا أحب الزحام؟ أنظر إلى الأفق: ها هو الوجه الذي صار مألوفًا: لازالت نظرة الوعيد بعينيه تتأجج، لم تخمدها الأعوام، تُرى.. أي أهوال سيفعلها بي الآن بعدما أتيحت له الفرصة.. طول الزمان جعلني أتوقف عن الأسئلة.. من هذا الرجل... لماذا يتوعدني.... لماذا دمّر حياتي... كلها أسئلة اعتصرتني أعوامًا حتى جففت. كنتُ مهندسًا لامعًا، وصاحب أكبر شركة محمول بالبلد.. في يوم قمّتي حيث مُنْحَنَى حياتي في أوْجِه، ظهر هذا الرجل.. كنت أحتفل مع أفراد شركتي بنجاحنا الباهر.. وكان هناك مؤتمرًا صحفيًا على هامش الحفل: * كيف يمكنكم إدّعاء أنكم ’أكبر‘ شركة محمول، بينما ليس هناك شركة محمول أخرى يجري عليها التفضيل؟ - نحن لا نحتكر شيئًا، ولا نمنع شيئًا عن أحد؛ السوق مفتوحة، والمنافسة ممكنة، غير أننا لم نجد من ينافسنا. * كانت تنافسكم شركة أخرى، فلماذا انسحبَت من السوق؟ - برغم أن هذا السؤال الأولى توجيهه لها، لكني أجيبك ببساطة.. في الفترة الأخيرة كشف الإعلام فضائح هذه الشركة، والسرقات التي كانت تقوم بها على أرصدة عملائها، والتنصّت على مكالماتهم، هكذا فقدت مصداقيتها وعزف عنها المستهلك. ولم يجد صاحبها بدًا من إعلان إفلاسه ثم الانتحار. بنهاية الأسئلة تنفّستُ الصعداء، أدرت وجهي إلى الحضور ففاجأني ذلك الوجه.. تُرى من هو.... ولماذا ينظر إليّ هذه النظرة الرهيبة... مِلتُ على مُساعدي: من هذا الرجل الذي ينظر إليّ بِغِلّ؟ أين؟ في الصف الأخير. لكن الصف الأخير فارغ. . . . فارغ! كانت هذه المرّة الأولى التي أراه فيها، لكنها أبدًا لم تكن الأخيرة..... بعدها صرتُ أراه في كل مجموعة، كل مكان، من نافذتي، في الشارع، العمل.. انقطعت عن العمل، وأخذت إجازة مفتوحة لتهدئة أعصابي.. جلستُ في بيتي مع زوجتي وابني نشاهد التليفزيون، جاءت الخادمة تحمل فنجان قهوة، نظرت إليها نظرة عابرة أن ضعيه، لكن ما لبثتُ أن أعدت النظر إليها برعب: كان ذاك الرجل خلف ظهرها ممسكًا بالصينية فوق يدها، ويميل يضعها أمامي إذ تميل. صرختُ في جزع، قذفتُ بالصينية في وجهها، ودفعتها بعيدًا.. صرختُ فيه: من أنت، كيف دخلت هنا، وماذا تريد.. رسم لي بأصابعه: أربعة، واختفى. هراء.. هراء.. ظللت أصرخ، وبداخلي قدر من الرعب لا يُوازَى.. هذا الرجل ليس بشريًا... وطبعًا اعتبرني زوجتي وابني مجنونًا... كنتُ في حالة مزرية ولم أكن لأهتم عمّا يقولون. في اليوم التالي كنت أقبّل ابني في فراشه، وزوجتي من خلفي تقول: هو بخير، المهم أن تكون أنت كذلك.. شعرت بتوق غامر لتلك السيدة التي احتوتني في حالتي الغريبة هذه، التفت إليها لأحتضنها، فإذا بهذا الرجل يحتضنها من الخلف، بسطَتْ يديها، صرخت، صرخت.... دفعتها عني: هذا الرجل! هذا الرجل! جريت إلى غرفة المكتب، حشوتُ المسدس رصاصًا، وخرجت أفرغه في صدره.... صنع الرصاص ممرات في صدره مكنتني من رؤية ما وراءه... ابتسم ملء فمه، ورسم لي بأصابعه: ثلاثة، واختفى. أغلقت على نفسي غرفة المكتب.... بكيت.. أربعة، ثلاثة... ما معنى هذا... هذا يعني أنني في عدٍّ تنازلي.. هذا الرجل لا يظهر إلا في مجموعة، أول ظهور كان يوم الحفل والحشد الكبير، ثم بدأ يظهر في مجموعات أصغر تدريجيًا، أمس ظهر في مجموعة من أربع أفراد: أنا وزوجتي وابني والخادمة. واليوم ظهر في مجموعة من ثلاثة، هذا يعني أنه غدًا سيظهر في مجموعة من اثنين، وبعد غد يظهر لي وحدي. لكن لا، لا يمكن أن أتيح له هذه الفرصة أبدًا، سأفسد مخططه. عليّ إعداد العدّة جيدًا... عليّ أن أبقى وحدي حتى أموت، أو بمعنى آخر ’حتّى‘ أعيش. خرجت من المكتب، أفهمت زوجتي أنني أمر بظروف بشعة، وأني لو رأيتها غدًا فسأموت بعد غد، أخبرتها أنها في حلٍ إن أرادت، كانت تولول وتردد أنني جننت. جهزت حقيبة ملابسي، كل أوراقي، كمبيوتري المحمول، وألبوم صوري، سحبت كل المبالغ الخرافية التي كانت بالبنك، استأجرت فيللا منعزلة، ومررت على النجّار أخذته إليها، طلبت منه أن يصنع لي كوّة من سنتيمترات أسفل الباب. وها أنا، أطلب أشيائي بالهاتف، أستلمها من الكوّة، أدفع فواتيري من تحت عقب الباب. عملي، صحتي، علاقتي بأسرتي.. كلها أشياء تدمّرت.. إذا قُدّر لنا أن نفترق فلا يجب أن أؤرقهم باقي حياتهم... لينسوني ويتابعوا... لكني مع هذا لمّا كان يشتد عليّ الحنين أتصل على هاتف المنزل.. أسمع "آلو" المُحبّبة من ابني أو زوجتي، وأغلق الخط. حتى يوم اتصلت ولم يُجبني أحد. أين ذهبوا.. أهم بالخارج، مسافرون... مهاجرون... أشهر عديدة أتصل كل يوم ولا يجبني أحد.. جننت... وجدت نفسي أبحث عنه... أنظر من زجاج النافذة: أين أنت؟ لاح لي بين الجموع حتى اقترب... سألته: أين هم؟ أشار بيده أن رحلوا سألته عن زوجتي، ألبس بنصره الأيسر خاتمًا وهميًا... سألته عن ابني، أشار بإصبعه إلى السماء. صرخت: مات؟ بكيت بجنون، ابني.. ابني مات... أصرخ فيه: لماذا جعلتني أتركهم.. لماذا دمّرت حياتي.... يشير بإصبعيه أن: اثنين. أسأله: ماذا تريد مني؟ تلتمع نظرة الشر بعينيه، ويسحب يديه كسكّين على رقبته، ثم يتركني ويتوارى. أجلس في بكائي، حتى يغلبني النوم... وها أنا.. عشرون عامًا في عزلتي وصمتي المهيب... أمس فقط، أيقظتني جلبة بالأسفل: أشعر برعب، ألتقط مسدسي وأنزل فورًا، بغرفة المكتب أجد رجلاً ملثّمًا.. ما إن يراني حتى يصرخ: - لا تقتلني يا بيه... لم أكن أريد إلاّ بعض المال لإطعام أسرتي. أنظر إليه بعينين خاويتين... هذا ما لم أعمل حسابه... بعد عشرين سنة من الحذَر.. بعد أن مات ابني وتزوجت زوجتي... يخترق عُزلتي لص! أنظر للنافذة... أجد الرجل على حافتها يبتسم في تشفٍ... ها قد حان الأجل... ماذا ينتظر، لماذا لا يأتي للداخل... ليأتي، ولأرتاح من هذا العذاب... تكفيني كل هذه السنين. أدعوه: هيّا، تعالى، ها قد صرنا اثنين. أشار بإصبعه أن غدًا. وها قد جاء الغد.. هكذا، تجدونني أنتظره في النافذة... سرحتُ حينًا في خواطري.. بعد هذا العمر، أنا قد أقبل الموت، لكن ليس دون أن أعرف ما جنيت. تأخر اليوم... وأنا لم يعد عندي صبر.. أسبلتُ دمعة على حالي، طالما لن يبكيني أحد، وفتحت عيني لأجده أمامي على النافذة، ونظرة الغل نارًا بعينيه. - تعالى، أنا مستعد ضحك في سخرية، وأشار بإصبعه أن لا، كاد يتوارى، سريعًا رفعت زجاج النافذة، وجذبته بيديّ إلى الداخل، فسقط على الأرض. - ها أنا، اقتلني قال ببساطة: من قال أني أريد قتلك؟ شعرت برأسي ينفجر: ألم تحرمني أسرتي، وتحبسني هنا بين أربع جدران طوال عشرين سنة؟ بل أنت من فعل. صرخت بجنون: - ألم تكن تتوعدني أنك ستقتلني، وكنت تنتظر أن أكون في مجموعة من اثنين؟ - وهل هناك شيء اسمه مجموعة من اثنين؟ ما درسته في المدرسة أن الاثنين مثنّى وليست جمعًا. - ألم تكن تنتظر آخرًا يخترق عُزلتي، وجاءتك الفرصة مع دخول اللص؟ - أنا لم أكن أنتظر لصًا، لو كنتُ أبحثُ عن ثانٍ أظهر معه لكان عِندي كُثُر يمكنني إحضارهم في أي وقت. ثم أشار إلى يمينه، فتجسّد شبح مُحرّق بشدة، وبعينه نظرة سخط: - ألم تحرقه وتحرق شركته وتشوّه سمعتها بالسوق حتى تحصل على لقب صاحب أكبر شركة محمول؟ اعتصر الخوف قلبي. أشار إلى شماله، فتجسّد شبح عليل يقطر فمه دمًا: - ألم تتركه يموت مرضًا بعدما هربت إلى عُزلتك وأخذت معك كل مليم كنت حققته من عملك؟ ارتجف قلبي: - ابني! قال بِغِلّ: - لو كنت أنوي قتلك ما كنت أنتظر طقوسًا وهمية: أن نكون فرادى أو جماعات، لو أردت روحك لأخذتها مباشرة، لكني أردت أن أعذّبك في كل لحظة، أن أدمّر حياتك في الوقت الذي تظن فيه أنك نجحت، كل نجاحاتك هذه سلبتها مني، ولو كنتُ أنا على وجه الأرض، ما كنت أنت الأول على رفاقك أو أفضل مهندس. تهاويت على الكرسي: - من أنت؟ نظر إليّ بتحدٍ: - ألا تعرفني حقًا؟ ذهب إلى المكتب، أخرج ألبوم صوري.. وضع أمامي صورة حفل زفافي، حين كنت في الثلاثين، أنا وزوجتي وعشرات الوجوه من أصدقائنا، ووجه هذا الرجل القميء، كيف لم ألحظه من قبل.. كان في مثل سني.. وضع لي صورة حفل تخرجي من كلية الهندسة، أنا وحشد من زملائي، ونفس الوجه القميء لكن أصغر سنًّا، كنّا حينها في العشرين. هو يترصدني منذ زمن إذًا... رمى أمامي صورة حفل نهاية المرحلة الإبتدائية: أنا و ’ناجي‘ صديقي، وحشد من... ماذا؟ ’ناجي‘ صديقي... نظرت إليه بذهول: - ’ناجي‘ صديقي؟ أهو أنت؟ قال لي: - كنت أعلّمك كيف تتصالح مع العالم، كيف ترقى فوق الضغوط، كنت أقول لك أن هذا ما يميزك ويجعلك ناجحًا، لكنك اخترت الطريق السهل. يقولون أنه بإمكانك أن تحصل على أعلى بناء إذا اهتممت ببنائك وعلّيته، وبإمكانك أن تحصل على أعلى بناء إذا هدّمت مباني الآخرين. وأنا كنت الوحيد الذي ينافسك على لقب: ’الأوّل‘. قاطعته: - ’ناجي‘ صديقي أنت أخطأت الفهم، التدافع هو ما قتلك، داسوك، وأنا حزنت عليك كثيرًا. استشاط غضبًا: - لا تكذب عليّ. هدأ قليلاً: - لا أحد يكذب على الموتى يا صديقي. يومها، مددتُ إليك يدي أساعدك أن تحصل على مكانٍ وسط الجمع، لم أطمئن إلاّ حين تمكنتَ من مكانك. نظرت إليك أدعمك بابتسامتي أن تهدأ وتتشبث بي، فإذا بوجهك تعبير من يجمع كل طاقته لأمر جلل، فجأة وجدت كلتي يديك فوق رأسي تدفعاني لأسفل، قوة عجيبة تملكتك، تضغط وتضغط حتى سقطتُ تحت الأقدام.. فدستني وتابعت. أرتجف، أبكي: - اقتلني، وأرحني التمعت عيونه: - ولماذا أقتلك وحدي، أنا لستُ أنانيًا مثلك. أشار لهم أن تقدموا، أمسك صاحب الشركة بذراعي، وأمسك ابني بذراعي الأخرى، وأمسك ’ناجي‘ صديقي بساقي.. رفعوني إلى وضع أفقي، ثم جرى كل منهم في اتجاهٍ مُختلِف.

تعليقات

3 تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع